
اختتمت مساء يوم الخميس 18/9/2025 فعاليات مهرجان ليالي مادبا الثقافي، الذي تنظمه سنويًا مديرية ثقافة محافظة مادبا بالتعاون مع مركز زها الثقافي في ماعين، وسط حضور واسع من مثقفين وفنانين وأهالي المنطقة الذين اعتادوا أن يجعلوا من هذا المهرجان فسحة لقاء وتلاقٍ بين الإبداع المحلي والوطني.
منذ انطلاقه في الحادي عشر من أيلول الجاري، حرص المهرجان على أن يقدم برنامجًا متنوعًا يرضي مختلف الأذواق والفئات العمرية. ففي أيامه الأولى، شهدت خشبة مسرح مركز زها عروضًا موسيقية وغنائية أحيتها فرق شبابية وأخرى تراثية من مادبا وخارجها، جسدت التنوع الثقافي في الأردن. كما خصصت فعاليات للأطفال تضمنت ورش رسم وحكايات شعبية وألعابًا تعليمية، فيما نظمت المديرية ندوات فكرية ناقشت قضايا الهوية والتراث ودور الثقافة في التنمية المجتمعية، لتؤكد أن المهرجان ليس مجرد احتفال عابر، بل مساحة حوار بين الأجيال.
ليلة الختام جاءت مميزة، حيث قُدمت فقرات متعددة للأطفال من رسم على الوجوه وعروض مسرحية وقراءات قصصية، لتؤكد أن الثقافة في مادبا موجهة لكل الأجيال. كما أقيم معرض للكتاب من إصدارات وزارة الثقافة الأردنية، ضم عناوين متنوعة في مجالات الفكر والأدب والمعرفة، الأمر الذي منح الحضور فرصة للتعرف على أحدث الإصدارات الوطنية.
إلى جانب ذلك، أحيت أمسية شعرية أجواء المهرجان بإلقاء قصائد وطنية ووجدانية، بينما أضافت الفقرات الغنائية لمسة طربية، كان أبرزها ما قدمه الفنان محمد الحراوي من أغنيات للراحل فارس عوض، لتعود إلى ذاكرة الجمهور أعماله التي ارتبطت بالوجدان الأردني، مثل: عمان يا دار المعزة، حبحبني عالخدين، وأبيعك يا منى عيني.
الاحتفاء بالذكرى التاسعة والثلاثين لرحيل الفنان فارس عوض حمل طابعًا مؤثرًا، إذ ألقى الدكتور بكر السواعدة كلمة استعرض فيها ملامح مسيرته الفنية القصيرة والغنية، مؤكدًا أنه استطاع خلال سنوات قليلة أن يقدم إضافة حقيقية للأغنية الأردنية، وأن يخلد التراث البدوي الأصيل من خلال صوته الدافئ وأدائه المتميز.
كما ألقى الشاعر سعيد يعقوب قصائد وطنية من وحي المناسبة، تجسدت فيها روح الوفاء لفنان ارتبط اسمه بالأرض والانتماء.
وفي كلمة له خلال الحفل الختامي، قال مدير ثقافة مادبا محمد الرواحنة:
"مهرجان ليالي مادبا ليس مجرد احتفال ثقافي عابر، بل هو منصة حقيقية لتكريم الرواد الذين تركوا بصماتهم في ذاكرة الوطن. نحن نؤمن أن الثقافة فعل متجدد، وأن المهرجان جاء ليؤكد أن مادبا كانت وما تزال مدينة للثقافة والفن والتاريخ.
وفارس عوض واحد من هؤلاء الرواد الذين نفتخر بأنهم أبناء مادبا ولواء ذيبان، فقد استطاع بصوته وأدائه أن يخلّد التراث الأردني الأصيل ويمنحه بعدًا إنسانيًا يصل إلى الأجيال المتعاقبة. إن تكريم فارس عوض اليوم هو تكريم لذاكرة جماعية، لوجدان الناس، ولمسيرة أغنية وطنية لا تزال تسكن القلوب. وفي الوقت نفسه، نحن نخطط لأن يكون المهرجان في الأعوام المقبلة أكثر انفتاحًا على تجارب عربية وعالمية، بحيث نوسع المشاركة لتشمل فنانين ومبدعين من خارج الأردن، ليتحول إلى منصة حقيقية للحوار الثقافي العربي، مع بقائنا أوفياء لجذورنا المحلية عبر تكريم رموز مادبا وإبراز طاقات شبابها."
وفي لحظة امتزجت فيها مشاعر الفخر بالحنين، تسلمت والدة الفنان الراحل درعًا تكريمية بحضور نجل الفنان. وقالت وهي تغالب دموعها:
"رحل فارس وهو في عز شبابه، لكن حب الناس له يواسينا ويجعلنا نشعر أن روحه ما زالت بيننا."
أما الحضور، فقد عبروا عن امتنانهم لهذا الوفاء، حيث قال أحد المشاركين من أبناء مليح:
"تكريم فارس عوض ليس تكريمًا لفنان فقط، بل تكريم لذاكرة جيل كامل ربط بين الأغنية والأرض، بين التراث والهوية."
ولد فارس عوض عام 1956 في قرية برزا الأردنية في لواء ذيبان، ونشأ في قرية مليح جنوبي مادبا، حيث تفتحت موهبته الغنائية مبكرًا. بدأ مسيرته من خلال الإذاعة الأردنية وانضمامه إلى كورال فرقتها، قبل أن ينطلق منفردًا ليترك بصمة واضحة في المشهد الغنائي.
تميّز فارس عوض بأدائه للأغنية البدوية، متأثرًا بالموروث الشعبي الأردني، واستطاع أن ينقل ذلك التراث إلى الأجيال الحديثة عبر صوته وألحانه. ورغم قصر مسيرته التي توقفت فجأة إثر حادث سير عام 1986، إلا أن أعماله ما تزال تُردد حتى اليوم، شاهدة على موهبة كان مقدرًا لها أن تبلغ مكانة متقدمة في الساحة الفنية الأردنية والعربية.
بهذا الاحتفاء، أثبتت مديرية ثقافة مادبا أنها لا تكتفي بتنظيم مهرجان يزخر بالأنشطة الثقافية والفنية، بل تحرص أيضًا على أن يكون فضاءً للاعتراف بفضل الرواد والراحلين من أبناء المحافظة، ممن أسهموا في بناء الهوية الثقافية والفنية للأردن. واختتمت الليلة وسط تفاعل الحضور، ليبقى المهرجان شاهدًا على أن الثقافة في مادبا ليست مناسبة عابرة، بل فعل متجدد يربط بين الماضي والحاضر، ويمنح أبناء المدينة والأردن مساحة للتعبير عن ذاتهم، والوفاء لرموزهم الذين رحلوا وبقي أثرهم خالدًا.